في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ، قرأته ألف مرة ، ولكني ما انتبهت له إلا اليوم ، وهو أنه لما أراد الهجرة إلى المدينة ، خلف على بن أبي طالب ، ليرد الودائع التي كانت عنده إلى أصحابها ! !
الودائع ... ؟
كيف كان رجال قريش يستودعونه أموالهم وتحفهم ، مع ما كان بينه وبينهم ؟
لقد كان بين محمد وبين قريش لون من ألوان العداء ، قل أن يكون له في شدته مثيل ، هو يسفه دينهم ، ويسب آلهتهم ، ويدعوهم إلى ترك ما ألفوه ، وما كان عليه آباؤهم ، وهم يؤذونه في جسده وفي أهله وأصحابه ، شردوهم إلى الحبشة أولاً ، وإلى يثرب ثانياً ، وقاطعوهم مقاطعة شاملة ، وحبسوهم في الشعب ثلاث سنين . . .
فكيف كانوا مع هذا كله يستودعونه أموالهم ؟
وكيف كان يحفظها لهم ؟
هل في الدنيا حزبان متنافران متناحران يودع أحدهما الآخر ما يخاف عليه من الضياع ؟
هل في تواريخ الأمم كلها رجل واحد ، كانت له مثل هذه المنقبة ؟
رجل يبقى شريفاً أميناً في سلمه وفي حربه ، وفي بغضه وفي حبه ويكون مع أعداء حزبه ، مثله في شيعته وصحبه ؟ وتكون الأمانة عنده فوق العواطف والمنافع والأغراض ، وتكون الثقة به حقيقة ثابتة ، يؤمن بها القريب والبعيد ، والعدو الصديق ؟
إنها حادثة غريبة جداً ، تدل على أن محمداً كان في أخلاقه الشخصية طبقة وحده في تاريخ الجنس البشري ، وإنه لو لم يكن بالوحي أعظم الأنبياء ، لكان بهذه
الأخلاق أعظم العظماء..
الشيخ علي الطنطاوي
رحمه الله